مركز الراي للدراسات
اعداد :أ.د. حمود سالم عليمات
التاريخ : 24/5/2012
المكان هو الإطار الذي يتم فيه السلوك الإنساني، فإذا كان المكان، ضيقا أو خاليا، أو بعيدا عن الأنظار، أو غير مضاء أو فيه فرص للاختلاء والتواري عن الأنظار، مثل هذه الظروف المكانية يمكن أن تؤدي إلى الانحراف أو العنف.
وضغط المكان مع كثرة العدد والازدحام وإذا ما تزامن ذلك مع حرارة الصيف، (أو برد الشتاء..) وربما مع نقص مواد غذائية عند البعض والزخم الغرائزي مع المغريات الموجودة. إن احتمالات تشكل العلاقات الإنسانية عندما يزيد العدد، تتزايد ايجابيا وسلبيا (تزايدا هندسياً).
ولك ان تحسب (تباديل وتوافيق) الاحتمالات لأعداد بالعشرات أو المئات. فماذا تكون الاحتمالات؟ إن العدد (الكثرة) بحد ذاته كما ذكرنا هو محرك وبيئة خصبة للعنف، فكيف إذا ترافق العدد الكبير من الأشخاص مع الظروف الشخصية والنفسية والمكانية المفضية للعنف، وما أكثرها في الجامعات والتجمعات.
هنا تتعاظم عوامل الانحراف، ويكون اقتراف الخطأ ميسرا. إن التجمعات الكبيرة من البشر في أماكن ضيقة وفي نشاطات كثيفة (مثل الحفلات والمناسبات واللقاءات...) مثل هذه السياقات تزيد من معدل التفاعلات الاجتماعية وربما الاختلافات ويمكن أن تولد النزاع والعنف-حتى وان كان الحضور إخوة أو أقارب.
والدراسات العلمية تشير إلى أن كثيرا من جرائم القتل والعنف تتم في مثل هذه الأجواء والمناسبات خاصة تلك التي تشوبها تعاطي المسكرات والمفترات.
في نهاية المطاف فإن كافة العوامل والضغوط تنصب على الفرد في موقف أو مواقف وأحداث مرتبطة بظروف معينه. هنا تتفاعل العوامل الذاتية مع العوامل المجتمعية والظرفية.
وهنا تكون المقاومة الذاتية للانحراف والخطأ. يمكن لأولئك الذين لديهم انضباط ذاتي فاعل وتدين قوي وارتباط بمثل وقيم عليا، مستكنة في أعماق الوجدان.
ممكن لهذه النوعية من الناس أن تقاوم الضغوط والظروف كافة، مستعينة بمخزونها الوجداني، وبمهارات التحمل وبقوى الضبط الذاتي أن تستعصي على الانحراف، والخطأ.
ولكن إذا كانت الظروف والعوامل الاجتماعية من القوة بمكان أن تتهاوى معها وسائل وقوى الضبط الذاتي، فإن المقاومة تضعف ويكون الانحراف والخطأ سهل الارتكاب، بتوفر عوامله ودواعيه.
فلا استغراب أن نسمع عن انحرافات وجرائم، مستهجنة، وغريبة، إذا أدركنا حجم الضغوط التي يمكن أن يعاني منها عدد من الناس خاصة الشباب منهم.
عنف اللحظة يحصل حال وجود مثيرات وضواغط ومحفزات على الانحراف. حين لا يكون للفرد قوة مقاومة كامنة، وحين تكون العوامل الخارجية هي مصدر التوجيه والتأثير، عندها يكون العنف سهل المنال، فهو الحل الأقرب للنزاعات حال فقر الضوابط ومهارات التعامل مع النزاعات والخلافات الفردية والجماعية.
ثانياً: مقترحات لبيئة جامعية
فاعلة وآمنة ومحصنة ضد العنف
رغم أن العنف المجتمعي واسع النطاق ويتطلب حلولا واستجابات فاعلة، ومن مختلف شرائح المجتمع ومؤسساته، سوف نركز في هذا المقال على قطاع التعليم الجامعي والشباب بشكل خاص.
وربما نعود إلى قطاعات التعليم العام والمجتمع في مقال آخر إن شاء الله.
ويمكن القول وبعجالة فإنه على المستوى المجتمعي لا بد من العمل على وضع السياسات والبرامج التي تعزز من تماسك المجتمع وترابطه وتعمل على ترميم منظومة القيم والسلوكيات والأعراف والعادات الحميدة.
مطلوب إصلاح اجتماعي وتحقيق الانضباط العام في كافة المؤسسات والدوائر والهيئات وان تعاد وتصان هيبتها ووقارها وجديتها.
وينبغي العمل لإعادة الثقة بين المواطنين والمسئولين والمؤسسات عامة أو خاصة.
وكما ينبغي توجيه الوسائل الإعلامية لتعمل باتساق مع باقي أجهزة التثقيف والتربية لتساهم في تشكيل وإعداد الإنسان الصالح المنتمي المنتج في ظل المرجعية القيمة المعيارية العليا لمجتمعنا.
التعليم في الأردن بشكل عام هو مورد وطني هام قد تحققت فيه انجازات كبيرة على جميع المستويات.
ولقد جرت وتجري محاولات كثيرة وجهود طيبة للإصلاح. ويمكن القول ان كثيرا من جهود الإصلاح والتطوير تركزت على القضايا الكبرى في التعليم مثل سياسات القبول وتمويل التعليم والقوانين والتشريعات ومعايير الاعتماد بشكل كبير.
ولكن يمكن القول ان عملية الإصلاح الكبيرة وقفت على مداخل الغرف الصفية والعلاقات الإنسانية في الجامعات. فلم يدخل التطوير بشكل واضح ومؤثر في الغرف الصفية والخطط الدراسية ومضامين المواد، وأساليب تدريسها وتعلمها.
من الضروري إجراء إصلاح جوهري في النظام التعليمي، بحيث يجري الاهتمام بالطالب كانسان لديه احتياجات متعددة ولديه إمكانيات وقدرات متنوعة، وانه عنصر فاعل في العملية التعليمية التعلمية، وليس مجرد وعاء يملأ بالمعلومات المتغيرة.
مطلوب نظام تعليمي تعلمي تفاعلي، يعمل على توظيف وتفعيل كامل القدرات والمواهب الإنسانية عند الطلبة، ومدرسيهم، ويعمل على ربط المدارس والجامعات وطلبتها وأساتذتها بمجتمعهم المحلي ووطنهم الكبير.
فلا تكون هذه المرافق التعليمية جزراً معزولة عن محيطها الاجتماعي والمكاني.
وفيما يلي مجموعة من المقترحات المحددة:
الشباب للحاضر أيضا
دأبنا سماع أن الشباب هم عدة المستقبل وأمل المجتمعات. كما تعودنا سماع ارتباط كلمة شباب بالمشكلات. فغالبا ما نسمع أو نقرا مشكلات الشباب. وقليلا ما نسمع وعود الشباب او إسهاماتهم او قدراتهم.
وكأننا بهذه التصورات قد جعلنا من الشباب فئة افتراضية إشكالية بعيدة عن الواقع او أنها من مشكلات المجتمع.
وإذا ما أخذنا في الاعتبار الارتفاع الكبير في نسب البطالة لدى الشباب وخاصة المتعلمين منهم. وآخذين في الاعتبار حجم الالتزامات والضغوط التي تقع على الشباب او هي في انتظارهم.
لأدركنا الخسارة الفادحة التي تتكبدها المجتمعات جراء إعطاء الشباب قيمة هامشية في المجتمعات. وما يعنيه ذلك من انصراف الشباب إلى إضاعة الوقت والجهد والصحة في سلوكيات قتل الوقت المفروضة عليهم.
لا بد أولا من تغيير النظرة إلى الشباب والانتهاء من إحالتهم إلى مستقبل بعيد وغامض. لابد من الاعتراف الحقيقي بقدرات الشباب وإمكانياتهم في خدمة أنفسهم وأسرهم ومجتمعاتهم.
على المجتمعات أن تفسح للشباب فيها مكانهم الخاص وتتيح حقا لهم فرص العمل والمشاركة بكافة مظاهرها. وان تزيل العوائق الحقيقية والمصطنعة أمامهم.
وأن تحقق المؤسسات المعنية بالشباب وعودها وتنفذ خططها الموجهة لخدمة الشباب واستثمار قدراتهم وإمكانياتهم وإدماجهم في المجتمع.
ربط الشباب بالمجتمع
تبين من الخبرة الإنسانية والبحث العلمي أن انغماس الناس في مجتمعاتهم وخدمتهم لها، ومشاركتهم في نشاطاتها، يجعلهم أكثر ارتباطا وإخلاصا وانتماء لها.
إن الانفصال عن الحياة العامة وتشرذم الشخصية وطبيعة التعليم «التلقيني»- تضع حاجزا بين الشباب ومجتمعهم المحلي والعام. فتضعف لديهم مشاعر الإحساس بالانتماء والمسئولية وروح المبادرة والنخوة وما شابهها من أخلاق المجتمع التي تشكل نوعا من الانضباط الذاتي والاجتماعي.
حيث ينغرس في النفس عمق الانتماء والولاء والارتباط الذي يعطي للحياة الاجتماعية معناها ومغزاها، وحصانتها ضد الانحراف والخطأ.
إن العمل التطوعي الهادف والمنضبط يعطي الشباب فرصا للتدريب على متطلبات الحياة وآليات التعامل مع الواقع الاجتماعي. وفيها ينضجون اجتماعيا ومهنياُ.
ومن أنسب الإجراءات الممكن إتباعها لإعادة صياغة الشباب وربطهم بوطنهم وبالحياة العملية وتقويم شخصياتهم وصقلها –ذلكم هو خدمة العلم الإلزامية. خدمة العلم هي أفضل وسيلة لصقل شخصيات الشباب وزرع الجدية والنظام والانتظام في حياتهم وبالتالي صياغة جيل جاد منتم فاعل.
والشخصية المنظمة القادرة على التعامل مع صعاب الحياة ومتطلباتها هي اقدر على التفاعل الايجابي في المجتمع، وأكثر احتمالا للعمل في مختلف الظروف والأحوال.
إضافة لخدمة العلم، فإن العمل التطوعي يمثل مدخلا آخر لربط الطلبة والشباب بمجتمعهم ووطنهم. ولقد أحسنت الجامعة الأردنية صنعاَ بإقرارها متطلب خدمة المجتمع لجميع طلبتها منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن.
وفي الجامعة الهاشمية بوادر عمل طلاب خدمة للمجتمع وربما توجد بوادر العمل المجتمعي في جامعات أخرى.
ولقد تبين من المتابعة والدراسة أن تأثير المشاركة في المتطلب وفي التطوع الإضافي يصنع شخصيات متميزة وأكثر فعالية ونشاطا وانضباطا ومبادرة.
ينبغي أن يعمم المتطلب على جميع الجامعات وان تزداد ساعات المتطلب لتشمل المشاركة في العمل التطوعي كل فصل دراسي. ويا حبذا لو خصصت الجامعات أسبوعا كل فصل دراسي للعمل التطوعي وخدمة المجتمع.
بهذا يمكن أن تتحقق نتائج هائلة ويمكن أن يستفيد المجتمع بشكل اكبر وأفضل.
يمكن أيضا للمؤسسات العامة والخاصة ان تتيح للشباب فرص اكتساب الخبرة العملية المطلوبة للعمل. حيث يواجه الشباب حين البحث عن عمل معضلة الخبرة العملية التي تمثل عائقاَ مستعصياَ أمامهم.
ومن أين يمكن الحصول على هذه الخبرة لمتخرج جديد أو لعاطل عن العمل؟ ومن ناحية أخرى إن معدلات البطالة مرتفعة لدى الشباب المتعلمين.
وهذا يعني وجود وقت فراغ كبير لديهم ومن الأفضل استثمار هذه الطاقات فيما هو خير بدلا من أن تشغل بما هو شر. العمل التطوعي يمثل مخرجاَ من عقبة توفر الخبرة التي تواجه الشباب وبالتالي تزيد من فرص الحصول على العمل.
صياغة شخصيات الطلبة
بتوظيف متطلبات الجامعة
في الخطط الدراسية لطلبة البكالوريوس يوجد عدد كبير من مواد متطلبات الجامعة الإجبارية والاختيارية والتي تغطي بمجموعها عاما دراسيا كاملا تقريبا.
وهذا كم هائل من المواد الدراسية التي يدرسها جميع الطلبة. ومن المفترض أن هذه المواد هي جامع مشترك يهدف لبناء الشخصية الجامعية العلمية الوطنية.
ولكن المواد تلك غير مترابطة ولا تمثل منظومة هادفة من الموضوعات. وبعضها ربما وضعت لمجرد مشاركة كليات أو أقسام معينة أو لإطالة عمر تخصصات في طريقها إلى الزوال او استجابة لمتطلبات آنية ضاغطة.
بعض هذه المواد من حيث المسمى مفيدة جدا ولكنها من حيث المحتوى والأداء ليست كذلك.
فمثلا مواد مهارات الاتصال باللغة العربية ومهارات الاتصال باللغة الانجليزية، يمكن القول (وبأسى) أنها ليست مهارات ولا اتصال!!! بل هي إعادة إنتاج لمواد اللغة العربية والانجليزية بتعقيداتها المعروفة وبأسلوبها الذي لم يفلح في تقويم السنة الطلبة ولا أقلامهم.
مهارات الاتصال مواد مهمة جدا وهي الأساس في التفاعل والتواصل الإنساني الايجابي. وبدون مهارات التواصل يكون الإنسان متوحشا وفظا غليظ القلب. و مهارات الاتصال هي العنصر المفقود في كل حالات وحوادث العنف الأسري والمجتمعي والطلابي بل وعلى المستوى الإنساني العالمي.
ما يقال عن مهارات الاتصال (وبأسى آخر) يمكن قوله عن مادة «التربية الوطنية». لقد كان استحداث مادة التربية الوطنية لتحقيق أهداف المواطنة الفاعلة والايجابية والصالحة.
والنتيجة هي إعادة إنتاج مادة التاريخ- والبعض فقط غير عنوان الكتاب ليحمل مسمى التربية الوطنية، فلم تفلح المادة في تحقيق الغاية منها. التربية الوطنية أو تربية المواطنة الصالحة أمر في غاية الأهمية ولا بد من إعادة النظر في محتويات وطريقة تدريس المادة.
والمواطنة الصالحة والفالحة هي الركيزة الأساسية التي تبنى عليها الأوطان وتتقدم.
وعموما إن متطلبات الجامعة هي مدخل فاعل جدا إن أحسن استخدامه في صياغة الشخصية الجامعية المنشودة.
والشخصية التي نريدها، تتميز بعقل علمي، وروح المبادرة والانتماء الوطني الحي، والقدرة على التعامل والتعايش مع التنوع الإنساني الكبير في الأجناس والأعراق والديانات والأفكار، وقدرة على التكيف مع المتغيرات والتحلي بأنبل السجايا من الشهامة والكرم والحياء، والتفاني في خدمة المجتمع والآخرين.
هذه الشخصية لا تصنعها مواد دراسية فقط، ولكن مواد دراسية، ومهارات، وعمل ميداني ومجتمعي مصاحب وقدوات حية من أساتذة ومسؤولين. ولقد سبق لنا تقديم مقترح لرئاسة الجامعة الأردنية الموقرة في العام الدراسي 1995-1996 لإعادة صياغة متطلبات الجامعة لتصيغ الشخصية الجامعية الوطنية العلمية المتحضرة.
ويمكن لوزارة التعليم العالي ان تعيد النظر في هذه المواد لتوظيفها في صياغة الشخصية الجامعية الوطنية، وبنظر جديد يتحرر من اسر المقررات السابقة.
إصدار مدونات السلوك واعتمادها
الحياة الجامعية لها أعرافها وضوابطها وتعليماتها. والملاحظ أن الطلبة يأتون من محنة التوجيهي إلى الجامعة مباشرة، دون أن يتم إعدادهم للحياة الجامعية ومتطلباتها.
فيبقى الطلبة ربما لسنوات وهم لا يعرفون معنى الحياة الجامعية. ينبغي وضع مدونات وأدلة للسلوك الجامعي – وليس أنظمة التأديب-، تبين للطلبة متطلبات التعليم الجامعي، وتعليماته والعلاقات الجامعية وأخلاقيات العلم والبحث العلمي، وأساليب حل الخلافات والصراعات،
وكل ما يتعلق بالتعليم الجامعي من حقوق وواجبات على الجميع، وليس انتظار حتى يخطئ الطلبة فنبحث عن عقاب لهم. من الأولى والأجدى ان يتم تعليم الطلبة وتوجيههم نحو السلوك القويم والأخلاق الحميدة وليس نظم تأديب توحي بمسماها ومضمونها بالسلبية والمواجهة مع الطلبة.
ما ضر الجامعات لو خصصت الأسبوع الأول من كل عام دراسي لتوجيه الطلبة وتعريفهم بالحياة الجامعية ومرافق الجامعات، وتدمجهم في جلسات تعارف وتحاور مع أساتذتهم وزملائهم الأقدم في الدراسة.
ربما من الأفضل أن يتم تعليم الطلبة وتوعيتهم بالسلوكيات الايجابية والاتجاهات وأساليب التواصل والعلاقات الجامعية وليس برصد أنفاسهم وأخطائهم ومعاقبتهم عليها.
أن نبني السلوك الايجابي أفضل وأكثر جدوى علميا وإنسانيا من استنزاف الجهود الكبيرة في مقاومة السلوكيات السلبية.
توفير الدعم الشامل للطلبة
من الأمور ذات الأولوية التعامل المهني والعلمي مع مشكلات الطلبة وتقديم الدعم النفسي-الاجتماعي التربوي – والصحي الشامل.
فاحتياجات الطلبة والمشاكل التي تواجههم كثيرة ومعقدة. والأقسام الأكاديمية غير مؤهلة للتعامل مع هذا الكم المعقد من المشاكل.
لهذا يلزم استحداث إدارات أو أقسام أو شعب تعنى بتلك الخدمات. بحيث تخدم الطلبة وتعمل على دراسة أحوالهم وما يواجههم من صعاب وتحديات.
لا بد أن يكون القائمون على الدعم الشامل من المتخصصين المهنيين في مجالات الإرشاد والصحة النفسية والتمريض والعمل الاجتماعي والتربية، وأي من التخصصات التي يمكن أن تساهم في هذا الأمر.
إن عدم وجود هذا النوع من الدعم ربما يجعل الطلبة يلجئون إلى حلول غير علمية وسبل تزيد من سوء أحوالهم وربما تعرضهم لمخاطر أكثر.
إضافة إلى ذلك يمكن أن يكون قسم الدعم الطلابي جهة رصد ومتابعة ودراسة المشكلات والصعوبات الحقيقية التي تواجه الطلبة في حياتهم الجامعية.
والبيانات والمعلومات المحصلة من مثل هذه الدراسات ستكون أفضل جودة ونوعية من تلك الدراسات (الاستبيانية المستعجلة وذات العمومية) التي تقيس أمزجة وأراء الطلبة ولا تتعمق في مجريات حياتهم ومعاناتهم.
إصلاح ضبابية التخصصات وتحقيق تمايزها
أن التخصص والمهنة والعمل من أهم مقومات شخصية الإنسان. فالسؤال عن العمل والمهنة يواكب السؤال عن الصحة والأسرة. ولهذا وجب الاهتمام بالمهن والتخصصات، وان يكون الإنسان صاحب مهنة أو تخصص محدد.
يمكن القول أن التعليم الجامعي فيه عدد من التخصصات المهنية الواضحة التي تعطي لصاحبها الشخصية المهنية، مثل الطب والهندسة والتمريض والعمل الاجتماعي. وهناك تخصصات أخري لا يزال البعد التخصصي والمهني فيها ضعيفا.
بل أنها تعاني من تشتت الأفكار وتداخل المواد، والتشابك بينها، إلى درجة تجعل دارسيها يصابون بشواش العقول واضطرابها.
هذا الشواش والفوضى العقلية التي تتسم بها بعض التخصصات خاصة الإنسانية والاجتماعية، تنعكس على شخصيات الدارسين، فلا يشعرون بذوق التخصص ولا يشعرون بأهميته ولا ما يمكن أن يعملوا به.
وذلك رغم أن التخصصات تلك هي من أنبل التخصصات العلمية والتي فيها نتاج هائل من التجربة الإنسانية العلمية. ولكن نتيجة للقصور في بذل الجهد في تطويرها، واستسهال الأمور وعدم بذل الجهود اللازمة في ترقيتها مما يجعلها تبدو مضطربة ومشوشة في ذاتها وفي دارسيها.
ذلك الاضطراب والشواش انعكس على سلوك أولئك الدارسين، وربما المدرسين الذين لم يذوقوا حلاوة العلم ولم يهبوا له من أنفسهم ما يستحق من جهد وعمل.
فتسأل طالبا عما استفادة من دراسة الماجستير في نفس التخصص، فيقول لقد أخذنا هذه المواد في مرحلة البكالوريوس فهم يعيدون المواد نفسها، ربما بمسميات مختلفة، أو ربما نفسها.
وأحيانا يتم تدريس نفس الكتاب في جميع المراحل الدراسية من البكالوريوس مرورا بالماجستير وانتهاء بالدكتوراه.
ونشير هنا الى ان الاصلاح الجوهري للتعليم يقتضي الدخول في صلب مضامين التخصصات الدراسية والمواد التي يدرسها الطلبة.
إصلاح جوهري لم تتطرق له عمليات الإصلاح الهيكلي للتعليم العالي.
اعتماد مقررات دراسية ومصادر تعلم إضافية:
المواد الدراسية هي عنصر هام في التعليم الجامعي. فلا دراسة دون كتب ومصادر ومراجع متخصصة. بعض الجامعات تطلب عدم تحديد كتاب مقرر لطلبة البكالوريوس وذلك بقناعة أن الطلبة يجب أن يرجعوا إلى المكتبة ويستزيدوا من المراجع والمصادر الحديثة.
لكن الواقع انه يصار إلى الاعتماد على دوسيهات أو كتابة ملاحظات وجيزة مما يلقيه المدرس في المحاضرات. والنتيجة أن يتجمع للطلبة زاد قليل من العلم وصفحات قليلة من الملاحظات، والتي ربما تتكرر نفسها لسنوات أو لعقود كثيرة عند عدد من المدرسين.
وقد لاحظ احد الزائرين القادمين من الغرب أن الطلبة لدينا لا يحملون الكتب؟؟؟ (والآن هم يحملون جهاز الخلوي وعلبة السجائر)؟؟؟ هذا الخواء المعرفي يسهم في زيادة أوقات الفراغ لدى الطلبة، فليس لديهم مادة للقراءة، وليس لديهم واجبات عملية تشغلهم.
النتيجة هي كما نرى خاصة في الكليات الإنسانية تجمعات كبيرة للطلبة، دون وجود عمل نافع يقومون به، مما يصنع الظروف الموضوعية والذاتية للصراعات ومن ثم العنف.
قد يكون الحال أفضل في الكليات العلمية والطبية أو التي تدرس مقررات دراسية أجنبية. حيث أن المراجع الدراسية الأجنبية هي ذات مستوى عال من حيث الشكل والمضمون والأساليب.
وذلك لأنه يتم إعدادها من قبل خيرة العلماء وبدعم فني وإداري هائل من الزملاء ودور النشر. حبذا لو خصصت الجامعات شيئا من اهتمامها للمقررات الدراسية، وعملت على دعم تأليف وترجمة كتب تعليمية ذات جودة عالية.
كتب تسهم في تقديم التخصصات الجامعية بصورة حقيقية بعيدة عن التسطيح والمتاجرة.
من الضروري أن يتم وعلى النطاق الوطني استحداث مشروع لتأليف كتب تعليمية لكافة التخصصات وفق المنهجية العلمية ومعايير الاعتماد والجودة النافذة. ولا يترك الطلبة ضحية الضحالة المعرفية للكتب أو الدوسيهات التي تؤلف على غير أسس من علم أو معرفة أو منهجية!!! وحاليا لا توجد حوافز لا علمية ولا مادية تشجع الأساتذة على تأليف الكتب التعليمية. فالكتاب مهما كان الجهد المبذول فيه فإنه لا يساوي في النقاط مقالا علميا من عدة صفحات.
إعادة النظر في اليوم الدراسي وتوقيت المحاضرات وعدد الساعات المعتمدة
يبدو أن طبيعة نظام الساعات المعتمدة وتوزيع المحاضرات والأوقات الطويلة بين المحاضرات واضطرار الطلبة للبقاء ساعات بينها. كل هذه الأمور تسهم في تهيئة السياق المناسب للعنف كما ذكرنا مسبقاَ.
يمكن القول إن الأوقات المخصصة للمحاضرات خاصة الموزعة على ثلاثة أيام، هي غير كافية لان يجري فيها حوار بين الأستاذ والطلبة أو أن يشارك فيها الطلبة وفق فنيات التفكير الناقد الذي يتطلب طرح أسئلة والإجابة عنها.
إن وقت المحاضرة هو 50 دقيقة، يضيع جزء كبير منه في تفقد الحضور والغياب، وغيرها من الإجراءات، والوقت المخصص حقا لموضوع المحاضرة قليل.
لهذا تبدو الدراسة بهذه الطريقة وكأنها سلق وسباق مع الزمن، خاصة مع غياب وسائل التعليم والتعلم الحديثة عن اغلب الغرف الصفية، وبقاء مشاريع تطوير التعليم العالي خارج الغرف الصفية والمواد الدراسية ولم تدخل بعد جوهر العملية التعليمية.
من اللازم مراجعة نظام الساعات المعتمدة وأيام الدراسة. ربما يكون من المناسب تقسيم الأيام إلى يومين-يومين (احد ثلاثاء) (اثنين، أربعاء)، وربما ترك الخميس ليكون يوما للعمل الميداني والإداري والتطوعي.
بهذا يمكن تمديد وقت المحاضرات، واختصار وقت انتظار الطلبة وتجمهرهم، إن أحسن طرح المواد وإحكام الخطط الدراسية، وتهيئة الغرف الصفية لتكون مساندة للتعلم الاليكتروني وأساليب التعليم الحديثة، مما يجعل المحاضرة ممتعة وجاذبة.
كما يمكن اختصار المواد الدراسية (132) ساعة معتمدة لدرجة البكالوريوس.
بالإمكان دمج الكثير من المواد وتركيزها في عدد اقل، يساهم في تقليل الكلفة ويساهم في إعطاء وقت كاف للتطبيق الميداني وللأنشطة الإضافية والاجتماعية ويخفف من العبء والإنهاك الذي يعاني منه الطلبة لدراسة هذا الحمل الثقيل من المواد والتي فيها قدر كبير من التكرار والتداخل.
إضافة إلى ما سبق يلزم تعديل في تعليمات التدريس وخاصة الانسحاب من المواد والغياب. الآن يمكن للطلبة أن ينسحبوا من المواد قبيل الامتحان النهائي بوقت وجيز ويمكن لهم أن يتغيبوا عن المحاضرات بما نسبته 15% من الوقت.
هذا يعنى أن الطلبة لديهم وقت كثير للتغيب عن المادة والانسحاب في نهاية المطاف، ما يسمح لغير الجادين بالبقاء سنين طويلة دون أن يتخرجوا ويعطيهم فرصة المشاركة في السلوكيات السلبية.
استحداث التخصصات المزدوجة والفرعية: استجابة لطموحات الشباب وقدراتهم
في كثير من الجامعات العالمية المرموقة يسمح للطلبة بدراسة تخصصين (إثنين) في نفس الوقت. فالطالب بعد استكمال متطلبات الجامعة الإجبارية والاختيارية يمكن له أن يختار تخصصا رئيسياَ آخر إضافة إلى تخصصه الأصلي.
مثلا يمكن أن يدرس الطالب بكالوريوس في اللغة العربية وبكالوريوس آخر في التربية أو أي تخصص آخر وفق معايير محددة. كما انه يمكن للطلبة في كثير من الجامعات اختيار تخصص فرعي إضافي.
وإتاحة الفرصة للخريجين من حملة البكالوريوس العودة إلى الجامعة ودراسة تخصص آخر، بزمن قصير حوالي سنتين، وذلك بإعفائهم من متطلبات الجامعة والمتطلبات التي درسوها سابقاَ.
هذا يسهم في الاستجابة لمتطلبات سوق العمل المتجددة ويسهم في توسيع خيارات الشباب وفتح آفاق جديدة أمامهم.
إن إعطاء الطلبة هذه الخيارات تفتح أمامهم آفاقا واسعا للترقية الذاتية والمهنية، والجمع بين أصناف مختلفة من التخصصات.
وربما يساهم هذا في تعزيز مهارات الطلبة وإصلاح ما أفسده سوء الاختيار أو الاختيارات المفروضة عليهم.
كما أن الجمع بين أكثر من تخصص يساهم في توسيع آفاق الطلبة وفي زيادة فرص توظيفهم والاهم في زيادة احتمالية الإبداع والابتكار لديهم. حيث يتبين من مراجعة الأبحاث العلمية وسير المبدعين، أنهم يجمعون بين أكثر من تخصص معرفي، وقد تحرروا من اسر التخصصات الضيفة.
لماذا لا تفتح جامعاتنا هذه الفرص على الطلبة وغيرهم من المتخرجين؟؟ ما الذي سوف تخسره الجامعات بفتح هذه المنافذ المعرفية لمساعدة الشباب والناس عموما على الاستزادة من المعرفة وتوسيع آفاقهم المعرفية والمهنية، في عالم نقول إن العلم فيه للجميع! سيكون الرد أن التعليمات لا تسمح؟؟ ولماذا تبقى الجامعات والمؤسسات التعليمية أسيرة لنظم وتعليمات وضعت لأوقات وظروف وفي ظل فلسفة إدارية تقوم على التضييق وسوء الظن؟؟ لماذا نبقى أسرى لفلسفة إدارية تقوم على سوء الظن ومخالفة الأصل الشرعي والمنطقي في أن الأصل البراءة الأصلية للذمم وان الأصل في الأشياء الإباحة. لماذا لا تفتح أبواب المؤسسات التعليمية على أوسع نطاق ووفق مفاهيم حقوقية التعليم وانه مدى الحياة.